ظلت الأوقاف الإسلامية تؤدي رسالتها على مر الزمان، وتعاقب المحسنون عبر الأجيال حتى تضخمت أملاك الأوقاف من الأراضي والمباني وغيرها. وكان يأتي على الأوقاف تُهمَل فيها أو يستغل البعض منافعها بغير وجه حق، ثم يأتي من يعيد الأمور إلى نصابها.
ولا شك أن الأوقاف تتأثر بالأوضاع العامة، دينيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، كما أن وتيرة الوقف ومجالاته قد أصابها في القرون الأخيرة بعض الانكماش، غير أن التغير الكبير الذي طرأ على العالم الإسلامي ابتداءً من القرن التاسع عشر الميلادي، وهو الغزو الأوروبي، لم يكن فقط غزوًا سياسيًا وعسكريًا، بل كان غزوًا حضاريًا وثقافيًا واقتصاديًا كذلك، ما كان له الأثر الكبير في الأوقاف وأحوالها وحركتها.
فقد انتهجت السلطات الاستعمارية سياسة المحاربة والتضييق ضد الأوقاف الإسلامية ومؤسساتها القوية، وعملت على الدفع بها نحو التلاشي والإفلاس. فعلى سبيل المثال كانت السياسة الفرنسية تجاه الأوقاف الإسلامية في البلدان التي خضعت لسلطتها تعتمد على خمسة مبادئ، هي:
ومن أمثلة تطبيق هذه المبادئ الاستعمارية ما حدث في المغرب من تمليك أجود أراضي الأوقاف للمستعمرين الفرنسيين، كما استولت الإدارة الفرنسية على عدد من مباني الأوقاف واستعملتها لصالحها، وتعمدت ترك المساجد المتضررة عرضة للإهمال، وفعلت مثل هذا في الجزائر وتونس وسوريا ولبنان.
الوقف في العالم الإسلامي بعد المرحلة الاستعمارية
بعد استقلال الدول الإسلامية ورحيل المستعمر عنها، دخلت الدول الإسلامية في مرحلة "الدولة الوطنية الحديثة"، وقد ورثت هذه التجربة بعض الملامح من الفترة الاستعمارية تمثلت في المؤسسات والقوانين والسياسات.
ومن بين ما ورثته عن المرحلة الاستعمارية سياستها تجاه المؤسسات الإسلامية التي تعرضت للإهمال تحت مظلة الاستعمار. وقد استمرت بعض الدول الإسلامية على السياسة الاستعمارية تجاه الأوقاف من إهمال وتهميش، والبعض الآخر – وإن كان قليلًا – احتضن الأوقاف وشجعها.
ولأن الدولة الحديثة في العالم الإسلامي اعتمدت إسناد معظم وظائفها ومرافقها إلى الدولة ومؤسساتها، فقد جعلت قطاع الأوقاف يستمر في التقلص والانكماش، حتى يكاد دوره ينحصر في المساجد وما يتصل بها، وتقلص دور المجتمع في التنمية والرعاية والثقافة والجهود التعليمية، على أساس أن الدولة قد تكفلت بذلك كله.
لكن التجارب الفعلية على أرض الواقع تثبت يومًا بعد يوم مدى الحاجة إلى تفعيل دور الفرد والمجتمع في تحمل الأعباء والشؤون والاحتياجات العمومية.
واليوم بدأت حركة الوقف تستعيد عافيتها وحيويتها في بعض الدول، وأخذت تتكيف مع الأوضاع الإدارية والقانونية لكل بلد، لنجدها تأتي حينًا في إطار وزارات الأوقاف، وحينًا تأخد شكل هيئات خيرية عالمية أو إقليمية، وأحيانًا تتركز حول مشاريع معينة تعليمية أو صحية، وهكذا تنتعش الأوقاف مرة أخرى بعد انكماشها في العصور الاستعمارية، لتظل في خدمة الإسلام والمسلمين.