استمر الصحابة رضوان الله عليهم بوقف أموالهم اتباعًا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولنيل مرضاة الله، واستمرت هذه الأوقاف بالتكاثر حتى بلغت مبلغًا عظيمًا في العصر الأموي، بسبب ما أغدقه الله على المسلمين بعد الفتوحات الإسلامية، فتوافرت لديهم الأموال والدور والحوانيت، كما امتلك كثير منهم المزارع والحدائق، وتيسرت لهم سبل الوقف لأعمال البر المختلفة.
ونتيجة للتوسع في استخدام الأوقاف وتعدد مظاهرها في حياة الناس، عمد الخليفة هشام إلى تخصيص إدارة مستقلة به عُرفت بـ(ديوان الوقف) تولاه القاضي توبة بن نمر بن حوقل الحضرمي، الذي وضع سجلاً خاصًا للأوقاف لحماية مصالح الموقوف عليهم، ومع انتشار هذه الظاهرة وتعدد أنماطها، تطور الوضع الإداري للأوقاف بتطور المجتمع الإسلامي.
ففي عهد المماليك أصبحت للأوقاف ثلاثة دواوين؛ ديـوان لأوقاف المساجد، وديوان لأوقاف الحرمين وجهات البر الأخرى المختلفة، وديوان للأوقاف الأهلية.
واستمرت مسيرة الأوقاف بالتعاظم حتى العهد العثماني، إذ اتسع نطاق الوقف لإقبال السلاطين وولاة الأمور في الدولة العثمانية على الوقف، وصارت له تشكيلات إدارية تعنى بالإشراف عليه، وصدرت تعليمات متعددة لتنظيم شؤونه وبيان أنواعه وكيفية إدارته، وما زال الكثير من هذه الأنظمة معمولًا به في كثير من بلاد المسلمين اليوم.
وقد تعرض الوقف خلال العصور المتأخرة إلى حملات واسعة تهدف إلى إلغائه، خاصة الأهلي منه، وقد تذرع أصحابها بالمشكلات التي حصلت بين بعض الورثة، أو بعض ممارسات القائمين على بعض الأوقاف الخيرية. ومن المؤسف أن معارضي الوقف قد نجحوا في إقناع الحكام بإلغاء الوقف الأهلي والسيطرة على كثير من الأوقاف الخيرية، في كثير من بلاد المسلمين.
إلا أنه ومع بدايات القرن العشرين وأواخر القرن التاسع عشر شهد العالم تراجعًا لدور الوقف في حياة المسلمين، وذلك لأسباب عديدة من أهمها الحملات التي شنها المعارضون لنظام الوقف من الكتاب والمثقفين والزعماء السياسيين في كثير من بلاد المسلمين، ورغم مواجهة العلماء لمثل هذه الحملات ومحاولتهم التصدي لها، فإن أوضاع الأوقاف أخذت تتدهور في عالمنا الإسلامي شيئًا فشيئًا.
ويمكن تلخيص وضعية الأوقاف في بلاد المسلمين في الوقت الحاضر في النقاط التالية:
1 – يخضع معظمها للإشراف الحكومي من قبل وزارات الأوقاف.
2 – حظرت بعض أنواعه القوانين في بلدان كثيرة.
3 – قل بدرجة ملاحظة إقبال الناس عليه بالمقارنة بما كان عليه الوضع في الماضي.
4 – لم يعد يمارس الآثار الاقتصادية والاجتماعية بهذه القوة والاتساع الذي كان يمارسه في الماضي.
5 – في الكثير الغالب من الأوقاف التي ما زالت قائمة تحت إشراف وزارات الأوقاف وإدارتها فإن استغلالها واستثمارها ليس على درجة عالية من الكفاءة. بل في بعض الحالات تنحرف تصرفات هذه الوزارات عن الضوابط الشرعية إما في عمارة الوقف وإما في استثماره أو توزيع عوائده على مستحقيه.
6 – لم نعد نشاهد تلك المدارس والجامعات العملاقة، وكذلك المكتبات والمستشفيات التي قامت وازدهرت في الماضي على أموال الوقف، بل ما ظل منها قائماً مثل الجامع الأزهر وغيره، مما استولت وزارات الأوقاف على أوقافه، فإنه قد تدهورت أوضاعه عن ذي قبل رغم تولي الحكومات الإنفاق عليه من خزانتها.
7 – لعل الملاحظة النهائية هي غياب نظام الوقف كظاهرة اقتصادية واجتماعية كانت لها بصماتها الإيجابية البارزة في نهضة العالم الإسلامي في ماضيه الطويل.